الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الذخيرة في فروع المالكية ***
الأول: مس الدبر، ويسمى الشرج بفتح الشين، وفتح الراء تشبيها له بشرج السفرة التي يؤكل عليها، وهو مجتمعها، وكذلك تسمى المجرة شرج السماء على أنها بابها، ومجتمعها، ومسه لا يوجب الوضوء خلافا ش، وحمديس من أصحابنا. الثاني: الأنثيان: لا يوجب مسهما وضوءا خلافا لعروة بن الزبير لاندراجهما في معنى الفرج عنده. الثالث: الأرفاغ: واحدها رفغ بضم الراء، وسكون الفاء، والغين المعجمة، وهو طي أصلي العجز مما يلي الجوف، ويقال: بفتح الراء، وقيل: هو العصب الذي بين الشرج، والذكر قال القاضي في التنبيهات: ومسها ليس بشيء، فلا يوجب وضوءا خلافا لعمر رضي الله عنه لقوله عليه السلام: (من مس ذكره فليتوضأ) خصه دون سائر الجسد، فدل ذلك على عدم اعتبار غيره من الجسد، فإن عارضوا المفهوم بالقياس عليه، فرقنا بأنه سبب المذي بخلاف غيره. الرابع: مس ذكر الصبي، وفرج الصبية لا يوجب وضوءا خلافا ش لأنهما ليسا مظنة اللذة. الخامس: فرج البهيمة لا يوجب وضوءا خلافا لليث لأنه ليس مظنة اللذة. السادس: الدم يخرج من الدبر، أو الحصا، أو الدود لا يوجب وضوءا خلافا ش، وح؛ لأن الله تعالى يقول: (أو جاء أحد منكم من الغائط) وخطاب الشارع محمول على الغالب المعتاد، وهذه ليست معتادة. قال صاحب الطراز: قال ابن نافع: ذلك إذا لم يخالطه أذى قال التونسي: ولو خالطه الأذى لكان فيه نظر لأنه غير معتاد. وحصى الإحليل إن خرج عقيبه بول توضأ، وإلا فلا، وقال ابن عبد الحكم: من خرج من دبره دم صاف، أو دود، فعليه الوضوء. السابع: أكل ما مسته النار، أو شربه لا يوجب وضوءا خلافا لأحمد في لحوم الإبل، ولعائشة، وابن عمر، وجماعة معهما رضي الله عنهم أجمعين لما في الموطأ أنه عليه السلام أكل كتف شاة، ثم صلى، ولم يتوضأ، وأما الأحاديث الواردة في الوضوء، فمحمولة على الوضوء اللغوي جمعا بين الأحاديث. الثامن: القهقهة لا توجب الوضوء خلافا ح لأنها لا توجبه خارج الصلاة، فلا توجبه داخلها قياسا على العطاس، والسعال، أو نقول لو أوجبته داخل الصلاة لأوجبته خارج الصلاة قياسا على الريح، وأما ما يروى عنه عليه السلام أنه كان يصلي بأصحابه، فدخل رجل في بصره ضر، فتردى في حفيرة كانت في المسجد، فضحك طوائف منهم، فلما قضى عليه السلام أمر كل من كان منهم ضحك أن يعيد الوضوء، والصلاة، فقال عبد الحق: لا يصح من أحاديث هذا الباب شيء. ولو سلمنا صحته، فهي قضية عين يحتمل أن بعضهم خرج منه ريح، فأراد عليه السلام ستره بذلك. التاسع: القيء، والقلس، والحجامة، والفصادة، والخارج من الجسد من غير السبيلين لا توجب وضوءا خلافا ح؛ لأن ما يروى عنه عليه السلام: (الوضوء من كل دم سائل) ومن قوله (إذا رعف أحدكم في صلاته، فلينصرف، وليغسل عنه الدم، ثم ليعد وضوءه، وليستقبل صلاته) ومن قوله عليه السلام (إذا قاء أحدكم في صلاته) أو قلس، فلينصرف، وليتوضأ، وليبن على ما مضى من صلاته، ونحو ذلك من الأحاديث لا يثبت منها شيء. والقياس على الإحداث بجامع النجاسة ممنوع، فإنه تعبد لإيجاب الغسل من هذه الأسباب لغير المتنجس، والقياس في التعبد متعذر لعدم العلة الجامعة. العاشر: ذبح البهائم، ومس الصلب، والأوتان، والكلمة القبيحة، والنظر للشهوة، وقلع الضرس، وإنشاد الشعر، والتقطير في المخرجين، أو إدخال شيء فيهما، أو أذى مسلم، أو حمل ميت، أو وطء نجاسة رطبة لا توجب وضوءا خلافا لقوم عملا بالأصل حكاه ابن حزم في مراتب الإجماع. تنقيح: أمر الله تعالى بالوضوء مما يحصل في الغائط بقوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط) قال أبو حنيفة - رحمه الله -: السبب في ذلك هو الخارج النجس الموجب لاستخباث جملة الجسد كما أن الإنسان لو كان به برص، أو جذام ببعض أعضائه كرهت جملته عرفا، فكذلك يستخبث شرعا فيلحق به كل خارج نجس كالحجامة، ونحوها. وقال الشافعي رحمة الله عليه: المعتبر المخرج لأنه هو المفهوم المطرد عند قوله: (أو جاء أحد منكم من الغائط) أي ما خرج من هذين المخرجين أوجب الوضوء كان طاهرا، أو نجسا معتادا، أو نادرا. وقال مالك رحمة الله عليه: المعتبر الخارج، والمخرج المعتادان اللذان يفهمان من الآية، وهما تعبدان لا يجوز التصرف فيهما بل يقتصر على مورد النص، وهذا هو الصواب، والله أعلم. وليس هذا من باب أخذ محل الحكم قيدا في العلة الذي هو منكر بل هذا من باب الاقتصار على محل الحكم لتعذر التصرف فيه، والنقل منه إلى غيره. تفريع: في الجواهر: كل سبب من الأسباب المعتبرة يمنع من الصلاة، والطواف، وسجود التلاوة، وسجود السهو، ومس المصحف، أو جلده، أو حواشيه، أو بقضيب؛ لأن ذلك بمنزلة اللمس عرفا للاتصال، وكذلك حمله في خريطة، أو بعلاقة، أو صندوق مقصود له. ولا بأس بحمله في وعاء مقصود لغيره، أو مس كتب التفسير، أو الفقه المتضمنة له لأنها المقصود دونه، وكذلك الدرهم عليه ذكر الله تعالى، وقد منعه بعضهم تعظيما لذكر الله تعالى. وأما معلم الصبيان، فلا يكلف الطهارة لمس الألواح قاله ابن القاسم لأجل الضرورة، ولم يره ابن حبيب، واستحب أيضا للصبيان مس الأجزاء، أو اللوح على وضوء، وكره لهم مس جملة المصحف على غير وضوء. ولمالك في العتبية: يعلق من القرآن على الحائض، والجنب، والصبي في العنق إذا احترز عليه، أو جعل في شيء يكنه، ولا يعلق بغير ما يكنه. وكذلك يكتب للحمى. قال صاحب الطراز: لأنه خرج عن هيئة المصحف، وصار ككتب التفسير يحملها المحدث. والأصل في هذه الجملة الكتاب، والسنة، أما الكتاب فقوله تعالى: (إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون لا يمسه إلا المطهرون) وجه التمسك به أنه تعالى نهى عن ملامسة القرآن، ومسه لغير الطاهرين إجلالا، والمحدث ليس بطاهر، فوجب أن يمنع من مسه، وتقريره أنها صيغة حصر تقتضي حصر الجواز في المتطهرين، وعموم سلبه في غيرهم، والأصل عدم التخصيص فيحصل المطلوب. فإن قيل: لا نسلم أن هذه الصيغة نهي، وإلا لكانت مجزومة الأجزاء، ومؤكدة بنون التأكيد. سلمنا لكن لا نسلم أن المراد بالمطهرين أهل الأرض بل أهل السماء كما قال تعالى في عبس: (بأيدي سفرة كرام بررة) سورة عبس 16. سلمنا أن المراد أهل الأرض لكن المطهرون عام في المطهر مطلق في التطهير، فلم لا تكفي الطهارة الكبرى، ولا تندرج الصغرى لخفتها. والجواب عن الأول من وجهين: الأول: أن الصيغة لو كانت خبرا للزم الخلف فيه لأنا نجد كثيرا من غير الطاهرين يمسه، والخلف في خبر الله تعالى محال فيتعين أن تكون نهيا، وقد حكى النحاة في الفعل المشدد الآخر أن من العرب من يحكيه حالة النهي على الرفع. الثاني: سلمنا أنه خبر لفظاً، ونهي معنى كما قال تعالى: (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) والمراد الأمر كذلك هاهنا يكون المراد النهي. وعن الثاني من وجهين: أحدهما: لو كان المراد أهل السماء لكان يقضي أن في السماء من ليس بمتطهر، وليس كذلك بخلاف ما إذا حملناه على أهل الأرض. وثانيهما: أن الألف واللام للعموم فيشمل أهل الأرض، والسماء، والأصل عدم التخصيص فيحصل المطلوب. وعن الثالث: أنه يجب أن يحمل المتطهر على أعلى مراتبه تعظيما لكتاب الله تعالى. وأما السنة: فما في الموطأ أنه عليه السلام كتب كتابا إلى عمرو بن حزم باليمن: (ألا يمس القرآن إلا طاهر)، وهذا الحديث يؤكد التمسك بالآية لأنه على صيغتها. تحقيق: قد توهم بعض الفقهاء أن هذه النصوص لا تتناول الصبيان كسائر التكاليف، فكما لا يكون تركهم لتلك التكاليف رخصة، فكذلك هاهنا، وليس كما ظن، فإن النهي عن ملامسة القرآن لغير المتطهر كالنهي عن ملامسته لغير الطاهر من جهة أن كل واحد منهما لا يشعر بأن المنهي عن ملامسته موصوف بالتكليف، أو غير موصوف فيكون الجواز في الصبيان رخصة. وهي سبعة: والوضوء: بفتح الواو الماء، وبضمها الفعل، وحكي عن الخليل الفتح فيهما، والأول الأشهر، وكذلك الغسل، والغسل، والطهور، والطهور، واشتقاقه من الوضاءة، وهي النظافة، والحسن، ويقال: وجه وضيء أي سالم مما يشينه، ولما كان الوضوء يزيل الحدث الذي هو مانع للصلاة سمي وضوءا، وفيه ثلاثة فصول: وهي قصد الإنسان بقلبه ما يريده بفعله، فهي من باب العزوم، والإرادات لا من باب العلوم، والاعتقادات، والفرق بينها، وبين الإرادة المطلقة أن الإرادة قد تتعلق بفعل الغير بخلافها كما نريد مغفرة الله جل جلاله، وتسمى شهوة، ولا تسمى نية، والفرق بينها، وبين العزم أن العزم تصميم على إيقاع الفعل، والنية تمييز له، فهي أخفض منه رتبة، وسابقة عليه. وهو القلب لأنه محل العقل، والعلم، والإرادة، والميل، والنفرة، والاعتقاد. وروي عن عبد الملك في كتاب الجنايات أن العقل في الدماغ لا في القلب فيلزم على مذهبه أن النية في الدماغ لا في القلب؛ لأن هذه الأعراض كلها أعراض النفس، والعقل، فحيث وجدت النفس وجد الجميع قائما بها، فالعقل سجيتها، والعلوم، والإرادات صفاتها. ويدل على قول مالك رحمة الله عليه قوله تعالى: (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) (ما كذب الفؤاد ما رأى) (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) (ختم الله على قلوبهم) ولم يصف الله شيئا من هذه الأمور بالدماغ، فدل على أن محلها القلب، ولذلك. قال المازري: أكثر المتشرعين، وأقل أهل الفلسفة على أن النية في القلب، وأقل المتشرعين، وأكثر الفلاسفة على أنها في الدماغ. وهو قوله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين) أي يخلصونه له دون غيره، وهذا يدل على أن ما ليس كذلك ليس مأمورا به، فوجب ألا يبرئ الذمة من المأمور به. وقوله عليه السلام في مسلم: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله، ورسوله، فهجرته إلى الله، ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه) ومعنى هذا الحديث أن الأعمال معتبرة بالنيات، فإن خبر المبتدأ محذوف، وهذا أحسن ما قرر به، فوجب الحمل عليه فيكون ما لا نية فيه ليس بمعتبر، وهو المطلوب. وهذا الحديث يتناول سائر الأعمال لعموم الألف، واللام. وأما آخر الحديث فمشكل لأجل أن الشرط يجب أن يكون غير المشروط، وهنا اتحد الشرط والمشروط لأنه إعادة اللفظ بعينه. وتحقيقه أن يقول: من كانت هجرته مضافة إلى الله، ورسوله في القصد، فهجرته موكولة إلى الله، ورسوله في الثواب، ومن كانت هجرته مضافة إلى دنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها، فهجرته موكولة إليها، ومن وكل عمله إلى ما لا يصلح للجزاء عليه، فقد خاب سعيه نسأل الله العافية من كل موبقة. وإنما قدر موكولة؛ لأن خبر المبتدأ إذا كان مجرورا لا بد من تقدير عامل فيه، وهذا أحسن ما قدر، فباين الشرط المشروط. إذا تقرر ذلك فهي واجبة في الوضوء، ونقل المازري عدم وجوبها عن مالك - رحمه الله -، وخرج على ذلك الغسل. وهي تمييز العبادات عن العادات ليتميز ما لله عن ما ليس له، أو تمييز مراتب العبادات في أنفسها لتتميز مكافأة العبد على فعله، ويظهر قدر تعظيمه لربه. فمثال الأول: الغسل يكون تبردا، وعبادة، ودفع الأموال يكون صدقة شرعية، ومواصلة عرفية، والإمساك عن المفطرات يكون عبادة، وحاجة، وحضور المساجد يكون مقصودا للصلاة، وتفرجا يجري مجرى اللذات. ومثال القسم الثاني: الصلاة تنقسم إلى فرص، ومندوب، والفرض ينقسم إلى الصلوات الخمس قضاء، أو أداء، والمندوب ينقسم إلى راتب كالعيدين، والوتر، وغير راتب كالنوافل. وكذلك القول في قربات المال، والصوم، والنسك، فشرعت النية لتمييز هذه الرتب، ولأجل هذه الحكمة تضاف صلاة الكسوف، والاستسقاء، والعيدين إلى أسبابها لتمييز رتبتها، وكذلك تتعين إضافة الفرائض إلى أسبابها لتتميز؛ لأن تلك الأسباب قرب في نفسها بخلاف أسباب الكفارات لا تضاف إليها لأنها مستوية. وسوى أبو حنيفة - رحمه الله - بين الصلوات، والكفارات في عدم الإضافة إلى الأسباب. والفرق بينهما ما ذكرناه، لا سيما ومعظم أسباب الكفارات جنايات لا قربات، واستحضارها حالة التقرب ليس بحسن، وأما الصلوات، فكلها مختلفة حتى الظهر، والعصر بقصر القراءة في العصر، وطولها في الظهر. وهذه الحكمة قد اعتبرت في ست قواعد في الشريعة، فنذكرها ليتضح للفقيه سر الشريعة في ذلك. وهي القربات، والألفاظ، والمقاصد، والنقود، والحقوق، والتصرفات. القاعدة الأولى: القربات، فالتي لا لبس فيها لا تحتاج إلى نية كالإيمان بالله تعالى، وتعظيمه، وإجلاله، والخوف من نقمه، والرجاء لنعمه، والتوكل على كرمه، والحياء من جلاله، والمحبة لجماله، والمهابة من سلطانه. وكذلك التسبيح، والتهليل، وقراءة القرآن، وسائر الأذكار، فإنها متميزة لجنابه سبحانه وتعالى، وكذلك النية منصرفة إلى الله تعالى بصورتها، فلا جرم لم تفتقر إلى نية أخرى، ولا حاجة إلى التعليل بأنها لو افتقرت إلى نية للزم التسلسل، ولذلك يثاب الإنسان على نية مفردة، ولا يثاب على الفعل مفردا لانصرافها بصورتها إلى الله تعالى، والفعل متردد بين ما لله، وما لغيره، وأما كون الإنسان يثاب على نية حسنة واحدة، وعلى الفعل عشرا إذا نوى، فإن الأفعال مقاصد، والنيات وسائل، والوسائل أخفض رتبة من المقاصد. القاعدة الثانية: الألفاظ إذا كانت نصوصا في شيء غير مترددة لم تحتج إلى نية لانصرافها بصراحتها لمدلولاتها، فإن كانت كناية، أو مشتركة مترددة افتقرت إلى النية. القاعدة الثالثة: المقاصد من الأعيان في العقود إن كانت متعينة استغنت عما يعينها كمن استأجر بساطا، أو قدوما، أو ثوبا، أو عمامة لم يحتج إلى تعيين المنفعة في العقد لانصراف هذه الأشياء بصورها إلى مقاصدها عادة. وإن كانت العين مترددة كالدابة للحمل، والركوب، والأرض للزرع، والغرس، والبناء افتقرت إلى التعيين. القاعدة الرابعة: النقود إذا كان بعضها غالبا لم يحتج إلى تعيينه في العقد، وإن لم يكن احتاج إلى التعيين. القاعدة الخامسة: الحقوق إذا تعينت لمستحقها كالدين المنقول، فإنه معين لربه، فلا يحتاج إلى نية مثل حقوق الله تعالى إذا تعينت له كالإيمان، وما ذكر معه. وإن تردد الحق بين دينين: أحدهما برهن، والآخر بغير رهن، فإن الدفع يفتقر في تعيين المدفوع لأحدهما إلى النية. القاعدة السادسة: التصرفات إذا كانت دائرة بين جهات شتى لا تنصرف لجهة إلا بنية كمن أوصى على أيتام متعددة، فاشترى سلعة لا تتعين لأحدهم إلا بالنية، ومتى كان التصرف متحدا انصرف لجهته بغير نية، فإن مباشرة العقد كافية في حصول ملكه في السلعة، ومن ملك التصرف لنفسه، ولغيره بالوكالة لا ينصرف التصرف للغير إلا بالنية؛ لأن تصرف الإنسان لنفسه أغلب، فانصرف التصرف إليه، والنية في هذه الأمور مقصودها التمييز، ومقصودها في العبادات التمييز، والتقرب معا. سؤال: هذا التقرير يشكل بالتيمم، فإنه متميز بصورته لله تبارك وتعالى، فلم افتقر إلى النية؟. جوابه: أن التيمم خارج عن نمط العبادات، فإنها كلها تعظيم، وإجلال، وليس في مس التراب، ومسحه على الوجه صورة تعظيم بل هو شبه العبث، واللعب، فاحتاج إلى النية ليخرجه من حيز اللعب إلى حيز التقرب. تنبيه: إذا ظهرت حكمه اشتراط النية، فليعلم أن ملاحظتها سبب اختلاف العلماء في اشتراطها في صيام رمضان، والوضوء، فزفر يقول في الأول، وأبو حنيفة - رحمه الله - يقول في الثاني: هما متعينان بصورهما، وليس لهما رتب، فلا حاجة إلى النية. ومالك، والشافعي رضي الله عنهما يقولان: الإمساك في رمضان قد يكون لعدم المفطرات، والوضوء قد يكون للتعليم فيحتاجان إلى ما يميز كونهما عبادة عن غيرهما. الأعمال كلها إما مطلوب، أو مباح، والمباح لا يتقرب به إلى الله تعالى، فلا معنى للنية فيه، والمطلوب نواه، وأوامر. فالنواهي كلها يخرج الإنسان عن عهدتها، وإن لم يشعر بها، فضلا عن القصد إليها مثاله: زيد المجهول لنا حرم الله علينا دمه، وماله، وعرضه، وقد خرجنا عن عهدة ذلك النهي، وإن لم نشعر به، وكذلك سائر المجهولات. نعم: إن شعرنا بالمحرم، ونوينا تركه لله تبارك وتعالى حصل لنا مع الخروج عن العهدة الثواب لأجل النية، فهي شرط في الثواب لا في الخروج عن العهدة. والأوامر على قسمين: الأول منها ما يكون صورة فعله كافية في تحصيل مصلحته كأداء الديون، والودائع، والغصوب، ونفقات الزوجات، والأقارب، فإن المصلحة المقصودة من هذه الأمور انتفاع أربابها، وذلك لا يتوقف على قصد الفاعل لها فيخرج الإنسان عن عهدتها، وإن لم ينوها. والقسم الثاني من الأوامر ما تكون صورة فعله ليست كافية في تحصيل مصلحته المقصودة منه كالصلوات، والطهارات، والصيام، والنسك، فإن المقصود منها تعظيمه تعالى بفعلها، والخضوع له في إتيانها، وذلك إنما يحصل إذا قصدت من أجله سبحانه وتعالى، فإن التعظيم بالفعل بدون قصد المعظم محال كمن صنع ضيافة لإنسان انتفع بها غيره، فإنا نجزم بأن المعظم الذي قصد إكرامه هو الأول دون الثاني، فهذا القسم هو الذي أمر فيه الشرع بالنيات، وعلى هذه القاعدة يتخرج خلاف العلماء في إيجاب النية في إزالة النجاسة، فمن اعتقد أن الله تعالى أوجب على عباده مجانبة الحدث، والخبث حالة المثول بين يديه تعظيما له فيكون من باب المأمورات التي لا تكفي صورتها في تحصيل مصلحتها، فتجب فيها النية، ومن اعتقد أن الله تعالى حرم على عبادة ملابسة الخبث فيكون عنده من باب المنهيات، فلا يفتقر إلى النية، وهو الصحيح. الأول: أن يتعلق بمكتسب الناوي، فإنها مخصصة، وتخصيص غير المفعول للمخصص محال. وأشكل هذا الشرط بنية الإمام الإمامة، فإن صلاته حالة الإمامة مساوية لصلاته حالة الانفراد، فهذه النية لا بد لها من مكتسب، ولا مكتسب فيشكل. وأجاب بعض العلماء عن هذا السؤال بأن النية يشترط فيها أن تتعلق بمكتسب استقلالا، ويجوز أن تتعلق بتوابع ذلك المكتسب، وإن لم تكن مكتسبة كما تتعلق بالوجوب في الصبح، والندب في صلاة الضحى، ونحو ذلك. وليس الوجوب، والندب مكتسباً للعبد، فإن الأحكام الشرعية واجبة الوجود قديمة صفة الله تعالى سبحانه، فحسن القصد إليها تبعا لقصد المكتسب، وكذلك الإمامة، وإن لم تكن فعلا زائدة على الصلاة مكتسبا، فإن القصد إليها تبعا لقصد المكتسب. الشرط الثاني: أن يكون المنوي معلوما، أو مظنونا، فإن المشكوك تكون فيه النية مترددة، فلا تنعقد، ولذلك لا يصح وضوء الكافر، ولا غسله قبل انعقاد الإسلام لأنهما عنده غير معلومين، ولا مظنونين. فروع: الأول: لو شك في طهارته، وقلنا لا يجب عليه الوضوء، أو كان شكه غير مستند إلى سبب، فتوضأ في الحالتين احتياطا، ثم تيقن الحدث، ففي وجوب الإعادة قولان أما لو قلنا بوجوب الوضوء عليه، فإنه معلوم، فلا تردد. الثاني: لو توضأ مجددا، ثم تيقن الحدث، ففي كتاب سحنون: لا يجزئه، وعند أشهب: يجزئه. الثالث: لو أغفل لمعة من الغسلة الأولى، وغسل الثانية بنية الفضيلة، ففي الإجزاء قولان، وخرج أصحابنا هذه المسألة، ونحوها على أن القصد إلى الفضائل إنما يكون بعد اعتقاد حصول الفرائض، فقد اندرجت نية الفرض في نية الفضيلة، وهذا لا يستقيم لأنا قد بينا أن النية من القصود، والإرادات لا من باب العلوم، والاعتقادات. والحاصل: أن الناسي لفرضه الفاعل للنفل إنما هو على اعتقاد حصول الفرض، والاعتقاد ليس بنية كما تقدم. نظائر ثمانية في المذهب وقع فيها إجزاء غير الواجب: أربعة في الطهارة، وهي: من جدد، ثم ذكر الحدث، ومن غسل الثانية بنية الفضيلة، وقد بقيت لمعة من الأولى، ومن اغتسل للجمعة ناسيا للجنابه، ومن توضأ احتياطا، ثم تيقن الحدث. وثلاثة في الصلاة، وهي: من سلم من اثنتين، ثم صلى ركعتين عقيب ذلك بنية النافلة، أو ظن أنه سلم، وفعل ذلك، ولم يكن سلم، أو أعاد في جماعة، ثم تبين له أنه كان محدثا في صلاته الأولى. والثامنة في الحج، وهي: من نسي طواف الإفاضة، وقد طاف طواف الوداع، وبعد عن مكة. والمشهور في هذه المسائل يختلف. ولا يشكل على هذا الشرط من نسي صلاة من خمس، فإنه يصلي خمسا مع شكه في وجوب كل واحدة منهن؛ لأن الشرع جعل شكه سببا لإيجاب الجميع، فالجميع معلوم الوجوب. ولا يشكل أيضا من شك أصلى ثلاثا، أو أربعا، فإنه ينوي صلاة ركعة رابعة ليتم صلاته مع شكه في وجوبها لأنا نمنع الشك فيها بناء على أنا نقطع بشغل ذمته بالصلاة حتى يغلب على الظن عند الحنفي، أو يقطع عند المالكي، والشافعي بإيقاع الأربع، وما حصل ذلك، فالقطع الأول مستصحب. الشرط الثالث: أن تكون النية مقارنة للمنوي؛ لأن أول العبادة لو عرا عن النية لكان أولها مترددا بين القربة، وغيرها، وآخر الصلاة مبني على أولها، وتبع له بدليل أن أولها إن نوي نفلا، أو واجبا، أو قضاء، أو أداء كان آخرها كذلك، فلا تصح. واستثني من ذلك الصوم للمشقة، والزكاة في الوكالة على إخراجها عونا على الإخلاص، ودفعا لحاجة الفقير من باذلها، فتتقدم النية عند الوكالة، ولا تتأخر لإخراج المنوي. فرع: قال صاحب الطراز: جوز ابن القاسم تقدم النية عندما يأخذ في أسباب الطهارة بذهابه إلى الحمام، أو النهر بخلاف الصلاة، وخالفه سحنون في الحمام، ووافقه في النهر، وفرق بأن النهر لا يؤتى غالبا إلا لذلك، فتميزت العبادة فيه بخلاف الحمام، فإنه يؤتى لذلك، ولإزالة الدرن، والرفاهية غالبة فيه، فلم تتميز العبادة، وافتقرت إلى النية، وقيل: لا تجزئ النية المتقدمة في الموضعين حتى تتصل بفعل الواجب، وقيل: إذا نوى عند أول الوضوء، وهو أول السنن أجزأه؛ لأن الثواب على السنن، والتقرب بها إنما يحصل عند النية، وقيل: إن عزبت نيته قبل المضمضة، والاستنشاق، وبعد اليدين لا يجزئه، وإن اتصلت بهما، وعزبت قبل الوجه أجزأه؛ لأن المضمضة من الوجه، وبها غسل طاهر الفم، وهي الشفة من الوجه. فعلية موجودة، وحكمية معدومة، وكذلك الإخلاص، والإيمان. فيجب على المكلف أن يعزم على طاعة الله ما دام حيا مستطيعا قبل حضورها، وحضور أسبابها، فإذا حضرت وجب عليه النية، والإخلاص الفعليان في أولها، ويكفي الحكميان في بقيتها للمشقة في استمرارها بالفعل، وكذلك. قال صاحب الطراز: لو وزن زكاته، وعزلها للمساكين، ثم دفعها بعد ذلك بغير نية اكتفى بالحكمية، وأجزأت، ولم يشترط الإيمان الفعلي في ابتدائها لصعوبة الجمع، وأفردت النية دونه، لأنها مستلزمة له من غير عكس. فروع ثلاثة: الأول: تكفي الحكمية بشرط عدم المنافي قال ابن القاسم في المدونة: إذا توضأ، وبقيت رجلاه، فخاض بها نهرا، ومسح بيديه رجليه في الماء، ولم ينو بذلك غسل رجليه لا يجزئه غسل رجليه. قال صاحب الطراز: يريد إذا قصد بذلك غير الوضوء بل إزالة القشب، وقال صاحب النكت: معناه أنه ظن كمال وضوئه فرفض نيته أما لو بقي على نيته، والنهر قريب أجزأه. قال صاحب الطراز: النية الحكمية تتناول الفعل ما لم تتناوله النية الفعلية بخصوصه، فإن النية الخاصة به أقوى كما لو قام لركعة، وقصد أنها خامسة، وهي رابعة في نفس الأمر فسدت الصلاة، أو صام يوما في الصوم المتتابع ينوي به النذر بطل التتابع. ويتخرج على هذه المسألة الخلاف الذي في صلاة من قام إلى اثنين وصلى بقية صلاته بنية النافلة، ثم ذكر، فعند ابن القاسم لا يجزئه، وعند ابن المواز يجزئه سلم، أو لم يسلم؛ لأن النية الحكمية متحققة، فلا تبطل إلا برفض. الثاني: إذا رفض النية الحكمية بعد كمال الطهارة روي عن مالك - رحمه الله - أنها لا تفسد لحصول المقصود منها، وهو التمييز حالة الفعل، وروي عنه فسادها لأنها جزء من الطهارة، وذهاب جزء الطهارة يفسدها قال صاحب النكت: إذا رفض النية في الطهارة، أو الحج لا يضر بخلاف الصلاة، والصوم، والفرق أن المراد بالنية التمييز، وهما متميزان بمكانهما، وهو الأعضاء في الوضوء، والأماكن المخصوصة في الحج، فكان استغناؤها عن النية أكثر، ولم يؤثر الرفض فيهما بخلاف الصوم، والصلاة. الثالث: قال المازري - رحمه الله -: تكفي النية الحكمية في العمل المتصل، فلو نسي عضوا، وطال ذلك افتقر إلى تجديد النية، فإن الاكتفاء بالحكمية على خلاف الأصل فيقتصر فيها العمل المتصل، وكذلك من خلع خفيه، وشرع في غسل رجليه. المنوي من العبادات ضربان: أحدهما مقصود في نفسه كالصلاة، والثاني: مقصود لغيره، وهو قسمان: أحدهما مع كونه مقصودا لغيره، فهو أيضا مقصود لنفسه كالوضوء، والثاني: مقصود لغيره فقط كالتيمم، ويدل على ذلك أن الشرع أمر بتجديد الوضوء دون التيمم، والمقصود بالنية إنما هو تمييز المقصود لنفسه لأنه المهم. فلا جرم إذا نوى التيمم دون استباحة الصلاة، فقولان للعلماء: أحدهما لا يجزئ لكونه مما ليس بمقصود في نفسه، والثاني: يجزئه لكونه عبادة. والذي هو مقصود لنفسه، ولغيره يتخير المكلف بين قصده له لكونه مقصودا في نفسه، وبين قصده للمقصود منه دونه. فالأول: كقصده الوضوء، والثاني: كقصده استباحة الصلاة، فإن نوى الصلاة، أو شيئا لا يقدم عليه إلا بارتفاع الحدث الذي هو الاستباحة صح لاستلزام هذه الأمور رفع الحدث. فروع سبعة: الأول: في الجواهر: إذا نوى ما يستحب له الوضوء كتلاوة القرآن وحده، فالمشهور أن حدثه لا يرتفع؛ لأن الحدث عبارة عن المنع الشرعي، وصحة هذا الفعل لا تتوقف على رفع المنع، فلا تستلزمه فيكون حدثه باقيا، وقيل: يرتفع نظرا إلى أصل الأمر بالوضوء لهذه الأمور. الثاني: إذا نوى رفع بعض الأحداث ناسيا لغيرها أجزأه؛ لأن المقصود رفع المنع، وقد حصل، ومعنى هذا الكلام على التحقيق أنه نوى رفع سبب بعض الأحداث؛ لأن الأسباب لا يمكن رفعها لاستحالة رفع الواقع. الثالث: قال: إذا نوى استباحة صلاة بعينها، وأخرج غيرها من نيته، فقيل: يستبيح ما نواه، وما لم ينوه؛ لأن حدثه قد ارتفع باعتبار ما نواه، وذلك يقتضي استباحة سائر الصلوات، وليس للمكلف أن يقتطع مسببات الأسباب الشرعية عنها، فلو قال: أتزوج، ولا يحل لي الوطء، أو أشتري السلعة، ولا يحصل لي الملك لم يعتبر ذلك، فكذلك هاهنا، وقيل: تبطل طهارته للتضاد، ولا تستبيح شيئا، وقيل: تختص الإباحة بالمنوي لقوله عليه السلام: (الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). الرابع:. قال المازري: إذا نوى رفع بعض الأحداث مخرجا لغيره من نيته، ففيه الثلاثة الأقوال التي في تخصيص الصلاة بالإباحة. الخامس:. قال المازري: لو نوى رفع الحدث، والتبرد أجزأه؛ لأن ما نواه معه حاصل، وإن لم ينوه، فلا تضاد، وقيل: لا يجزئه؛ لأن المقصود من النية أن يكون الباعث على العبادة طاعة الله تعالى فقط، وهاهنا الباعث الأمران. السادس: قال ابن بشير: لو نوى رفع الحدث، وقال: لا أستبيح، أو نوى الاستباحة، وقال: لا يرتفع الحدث، أو نوى امتثال أمر الله تبارك وتعالى، وقال: لا أستبيح، ولا يرتفع الحدث لم يصح وضوؤه للتضاد. السابع: إذا فرق النية على الأعضاء، فنوى الوجه وحده، ثم كذلك اليدين إلى آخر الطهارة، فقولان منشؤهما عند الأصحاب أن الحدث هل يرتفع عن كل عضو وحده، أو لا بد في ارتفاعه من غسل الجميع؟. ويخرج على ذلك مسألة الكتاب: وهي إذا مس ذكره في غسل جنابته بعد غسل أعضاء وضوئه، وأعاد وضوءه، فإنه يفتقر إلى نية عند الشيخ أبي محمد؛ لأن حدث الجنابة قد ارتفع عن المغسول قبل ذلك عن أعضائه، وغير الجنب يجب عليه نية الوضوء، ولا يعيد النية عند الشيخ أبي الحسن؛ لأن الحدث لم يرتفع عن الأعضاء السابقة، فهو جنب، والجنب لا يجب عليه أن ينوي الوضوء. وقال المازري قال بعض المتأخرين: يتخرج على رأي أبي الحسن إذا مس ذكره بعد غسله بفور ذلك أن لا ينوي الوضوء؛ لأن النية الحكمية كما تستصحب في آخر العبادة تستصحب بفورها، وقال غيره: لا يجرئ الخلاف هاهنا. ويتخرج عليه أيضا من غسل إحدى رجليه، وأدخلها في الخف، ثم غسل الأخرى، وأدخلها في الخف هل يمسح عليهما قولان. اعلم أن الحدث له معنيان في اصطلاح الفقهاء: أحدهما الأسباب الموجبة يقال: أحدث إذا خرج منه ما يوجب الوضوء، وثانيهما المنع المرتب على هذه الأسباب، فإن من صدر منه سبب من هذه الأسباب، فقد منعه الله تبارك وتعالى من الإقدام على العبادة حتى يتوضأ، وليس يعلم للحدث معنى ثالث بالاستقراء. والقصد إلى رفع الحدث الذي هو السبب محال لاستحالة رفع الواقع فيتعين أن يكون المنوي هو رفع المنع، وإذا ارتفع المنع ثبتت الإباحة فيظهر بهذا البيان بطلان القول بأن الحدث يرتفع عن كل عضو على حياله؛ لأن المنع باق بالإجماع حتى تكمل الطهارة، وبطلان القول بأن التيمم لا يرفع الحدث، فإن الإباحة حاصلة به فيكون الحدث مرتفعا ضرورة، وإلا لاجتمع المنع مع الإباحة، وهما ضدان. سؤال: إذا كان الحدث منعا شرعيا، والمنع حكم الله تعالى، وحكمه قديم واجب الوجود، فكيف يتصور رفع واجب الوجود؟. جوابه: هذا السؤال عام في سائر الأحكام المحكوم بتجددها عند الأسباب والجواب في الجميع أن الحكم مرتفع، ومتجدد باعتبار تعلقه لا باعتبار ذاته، والتعلق عدمي ممكن الارتفاع، ولو كان قديما، فإن القديم لا يستحيل رفعه إلا إذا كان وجوديا على ما تقرر في علم الكلام. الفرض الثالث: استيعاب غسل جميع الوجه: وحده طولا: من منابت الشعر المعتاد إلى منتهى الذقن للأمرد، واللحية للملتحي، ونريد بقولنا المعتاد خروج النزعتين، والصلع عن الغسل، ودخول الغمم فيه. والنزعان هما: الخاليتان من الشعر على جنبي الجبين، والذاهبتان على جنبي اليافوخ، والغمم ما نزل من الشعر على الجبين. ومن العذار إلى العذار عرضا. قال صاحب الطراز: واللحي الأسفل من الوجه عند سحنون، وليس منه عند التونسي، ومقتضى قول القاضي في التلقين خروج البياض الذي بين الأذن، والعذار، وأطراف اللحي الأسفل للأذنين عن الوجه. وفي البياض الذي بين العذار، والأذن ثلاثة أقوال يجب غسله في الأمرد، والملتحي لمالك، والشافعي، وأبي حنيفة رضي الله عنهم لأنه يواجه مارن الأنف لأنه لو لم يكن من الوجه لأفرد بماء غير ماء الوجه كسائر المسنونات، ولا يجب فيهما لمالك أيضا، وللقاضي عبد الوهاب؛ لأن المواجهة لا تقع عليه غالبا، ولأن المرأة لا يلزمها فدية إذا غطته في الإحرام، والوجوب في الأمرد فقط للأبهري؛ لأن العذار يمنع المواجهة. وإذا قلنا بعدم الوجوب، غسل سنة في حق الأمرد، والملتحي عند القاضي، ويحتمل عدم الغسل في الملتحي لأنه خرج عن وصف المواجهة كالذي تحت الشعر الكثيف. وإذا قلنا بالغسل: فلا يجدد ماء لأنه لا يمكن الاقتصار عليه لاتصاله، فلو جددنا له الماء لزم التكرار في الوجه بخلاف سائر المسنونات. فرعان: الأول: قال صاحب النوادر: قال بعض أصحابنا: يغسل ما تحت مارنه، والمارن طرف الأنف، وما غار من أجفانه، وأسارير جبهته بخلاف الجراح التي برئت غائرة، أو كانت خلقا، وبخلاف ما تحت الذقن. الثاني: في الجواهر: يجب إيصال الماء إلى منابت الشعر الخفيف الذي تظهر البشرة منه بالتخليل كالحاجبين، والأهداب، والشارب، والعذار، ونحوها، ولا يجب في الكثيف، وقيل: يجب؛ لأن الخطاب متناول له بالأصالة، ولغيره بالرخصة، والأصل عدمها. ويجب غسل ما طال من اللحية، وقيل: لا يجب. ومنشأ الخلاف: هل ينظر إلى مباديها فيجب، أو محاذيها، فلا يجب كما قيل فيما زاد من شعر الرأس. قال المازري: على الأول أكثر الأصحاب، والثاني: للأبهري، وقال مالك في المدونة: تحرك اللحية من غير تخليل. قال صاحب الطراز: قال محمد بن عبد الحكم: يخللها، وهو يحتمل الإيجاب، والندب وجه الوجوب قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم) والأمر للوجوب، ومن السنة أنه عليه السلام كان إذا توضأ أخذ كفا من ماء، فأدخله تحت حنكه، ثم خلل لحيته، وقال: بهذا أمرني ربي خرجه أبو داود، والترمذي قال البخاري: هذا أصح ما في الباب، وبالقياس على غسل الجنابة. وقال مالك: ذلك محمول على وضوء الجنابة لأنه مطلق، فلا يعم. وأما الآية، فجوابها أن الوجه من المواجهة، واللحية من المواجهة الآن، فلا جرم وجب غسلها، وقد ثبت عنه عليه السلام أنه توضأ مرة، فغسل وجهه بغرفة، وكان عليه السلام كث اللحية، ومعلوم أن الغرفة لا تعم الوجه، وتخليل اللحية، والبشرة التي تحتها. قال صاحب الطراز: وكما وجب غسل الباطن إذا ظهر كموضع القطع من الشفة، وأثر الجراح الظاهرة يجب أن يسقط غسل ما ظهر إذا بطن. فروع أربعة: من الطراز: الأول: إذا سقط الوجوب استوى على ذلك كثيف اللحية، وخفيفها على المذهب، وقول القاضي يجب إيصال الماء للخفيف لا يناقضه لأنه إذا أمر يده عليها، وحركها وصل الماء إلى المحال المكشوفة، فإن لم يصل الماء لقلته هنا يقول القاضي لا يجزئه خلافا ح. الثاني: روى ابن القاسم ليس عليه تخليل لحيته في الجنابة كما في الوضوء، وروى أشهب أن عليه تخليلها قياسا على شعر الرأس. الثالث: إذا قلنا لا يجب في الجنابة، فهو سنة، ولا يختلف المذهب أنه مشروع، وإنما الخلاف في الوجوب، والفرق بين الجنابة، والوضوء أن الوجه من المواجهة، فانتقل الحكم لظاهر اللحية، والجنابة ليست كذلك. الرابع: إذا قلنا: لا يجب التخليل في الوضوء، فلا بد من إمرار اليد عليها بالماء، وتحريك يده عليها؛ لأن الشعر يدفع بعضه عن بعض، فإن حرك حصل الاستيعاب في غسل الظاهر خلافا ح في اقتصاره على المسح. الفرض الرابع: غسل اليدين مع المرفقين، وقيل: لا يجب غسل المرفقين. حجة الأول: أن أبا هريرة رضي الله عنه توضأ، وأدار الماء عليهما، وقال عند كمال وضوئه: هكذا توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماء في قوله تعالى: (إلى المرافق) فقيل: إلى بمعنى مع كقوله تبارك وتعالى حكاية عن عيسى ابن مريم عليه السلام: (من أنصاري إلى الله) أي مع الله، وكذلك: (لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم)، وقيل: هي للغاية، واختلف في الغاية هل تدخل مع المغيا، أو لا تدخل، أو يفرق بين ما هو من الجنس فيدخل، أو من غيره، فلا يدخل، أو يفرق بين الغاية المنفصلة بالحس كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) فإن الليل منفصل عن النهار بالحس، فلا تدخل، وبين ما لا يكون منفصلا بالحس كالمرافق فيدخل، أربعة أقوال، هذا خلافهم في الغاية من حيث الجملة. ثم اختلفوا في الغاية التي في الآية، فمنهم من جعلها غاية للمغسول لأنه المذكور في الآية السابق للفهم، ومنهم من يقول اليد اسم للعضو، والمغيا لا بد أن تتقرر حقيقته قبل الغاية، ثم ينبسط إلى الغاية، وهاهنا لا تكمل حقيقة المغيا الذي هو غسل اليد إلا بعد الغاية فيستحيل أن يكون غاية له فيتعين أن يكون غاية للمتروك، ويكون العامل فيها فعلا مضمرا حتى يبقى معنى الآية، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، واتركوا من آباطكم إلى المرافق، والغاية لا تدخل في المغيا على الخلاف، فتبقى الغاية، وهي المرافق مع المغسول، وعلى هذا المأخذ يتخرج الخلاف هناك في الكعبين. تنبيهان: أحدهما: أن القول بأن إلى غاية للمغسول يقتضي أن لفظ اليد استعمل مجازا في بعضها كآية السرقة، والقول بأنها غاية المتروك يقتضي أن اليد استعملت حقيقة في كلها لكن يقتضي الإضمار، وإذا تعارض المجاز، والإضمار اختلف الأصوليون في أن المجاز أرجح، أو يستويان؟. الثاني: المرفق: يقال بفتح الميم، وكسر الفاء، وبكسر الميم، وفتح الفاء. فروع ثمانية: الأول: من قطع من الساعد، أو من المرفقين لا يجب عليه شيء؛ لأن القطع يأتي عليها. قال ابن القاسم في الكتاب: والتيمم مثله. قال صاحب الطراز: يريد في استيعاب المرفقين لا في الوجوب لاختصاص التيمم عندنا بالكوعين. الثاني: في الطراز: لو وقع القطع بعد الوضوء، وقد بقي شيء من المرفقين لم يجب عليه خلافا لمحمد بن جرير الطبري؛ لأن موجب الأمر قد حصل قبل القطع. الثالث: لو بقيت جلدة متعلقة بالذراع، أو المرفق. قال صاحب الطراز: يجب غسلها؛ لأن أصلها في محل الفرض، وإن جاوزت إلى العضد لم تجب اعتبارا بأصلها، وموضع استمداد حياتها، وإن انقطعت من العضد، وتعلقت بالمرفق، أو الذراع وجب غسلها قال: وفيه نظر؛ لأن ما لا يجب في أصل خلقته لا يكون واجبا، ولهذا المعنى يمكن الفرق بين هذا الفرع، وبين السلعة إذا ظهرت في الذراع. الرابع: إذا وجد الأقطع من يوضئه لزمه ذلك، وإن كان بأجر كما يلزمه شراء الماء، فإن لم يجد، وقدر على مس الماء من غير تدلك وجب عليه ذلك، وسقط عنه المعجوز عنه، ويحتمل أن يقال: لا يجزئه؛ لأن حقيقة الغسل الإمساس مع الدلك، فإذا فات أحدهما، فلا غسل، ويجب عليه مسح وجهه بالأرض، والأول أظهر؛ لأن التيمم لا يجوز لمن يقدر على مس الماء، واعتبارا بما لا تصل اليد إليه من الظهر. الخامس: من طالت أظفاره عن أصابعه كأهل السجن، وغيرهم قال: وجب عليهم غسل الخارج عن الأصابع، فإن تركوه خرج على الخلاف فيما طال من شعر الرأس، واللحية، أو يفرق بينهما، فإن الشعر زيادة على العضو، والظفر منه؛ لأن أصله حي بمنزلة العضو، وإنما فارقته الحياة لما طال، فأشبه الأصبع الشلاء. السادس: من له أصبع زائدة في كفه قال: يجب غسلها لأنها من اليد فيتناولها الخطاب، وكذلك إذا كانت له كف زائدة في ذراعه وجب غسلها تبعا لمحل الفرض قال: وكذلك لو كانت يد زائدة في محل الفرض، فإن كان أصلها في العضد، أو المنكب، ولها مرفق وجب غسلها لمرفقها لتناول الخطاب لها، وإن لم يكن لها مرفق لم تدخل في الخطاب سواء بلغت أصابعها للمرفق أم لا. السابع: قال: في تخليل الأصابع ثلاثة أقوال: وجوبه في اليدين، واستحبابه في الرجلين لمالك في العتبية، وابن حبيب، وعدم الوجوب فيهما لابن شعبان، وهو ظاهر المذهب، وروى عنه ابن وهب الرجوع إلى تخليلها. ومنشأ الخلاف أمران: هل خلل الأصابع من الباطن فيسقط كداخل الفم، والأنف، والعين، أو من الظاهر فيجب، وهل محاكتها، وتدافعها حالة الغسل تقوم مقام الغسل أم لا؟. فرع مرتب: قال بعض العلماء: يبدأ بتخليل الرجلين بخنصر اليمنى لأنه يمنى أصابعها، ويختم بإبهامها لأنه يسرى أصابعها، ويبتدئ بإبهام اليسرى لأنه يمنى أصابعها، ويختم بخنصرها. الثامن: قال: في الخاتم ثلاثة أقوال قال مالك في الواضحة: يحركه إن كان ضيقا، وإلا فلا، وقال ابن شعبان: يحركه مطلقا، ولمالك في الموازية لا يحركه مطلقا لأنه يطول لبسه، فجاز المسح عليه قياسا على الخف. قال: وإذا جوزنا المسح عليه، وكان ضيقا، فنزعه بعد وضوئه، ولم يغسل موضعه لم يجزه إلا أن يتيقن إصابة الماء لما تحته، وقد علم الاختلاف فيمن توضأ، وعلى يده خيط من عجين. فإن كان الخاتم ذهبا لم يعف عن غسل ما تحته في حق الرجال لتحريمه عليهم، والحرمة تنافي الرخصة. قال سحنون: لبسه في الصلاة يوجب الإعادة في الوقت. الفرض الخامس: مسح جميع الرأس: في الكتاب: يمسح الرجل، والمرأة على الرأس كله، ودلاليهما، ولا يحل المعقوص خلافا ش في اقتصاره على أقل ما يسمى مسحا، ولأبي ح في اقتصاره على الناصية. وحده من منبت الشعر المعتاد إلى القفا، وقال ابن شعبان: إلى منتهى منبت الشعر محتجا بما في أبي داود أنه عليه السلام مسح رأسه حتى أخرج يديه من تحت أذنيه، وهو ضعيف لا حجة فيه، والأحاديث الثابتة أنه عليه السلام بلغ إلى القفا. ومن الأذنين إلى الأذنين، وجوز ابن مسلمة ترك الثلث، والقاضي أبو الفرج ترك الثلثين، وأوجب أشهب الناصية، وعنه أيضا بعض غير محدود. حجة المشهور الكتاب، والسنة، والقياس: أما الكتاب، فقوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) وجه التمسك به من وجوه: أحدها أن هذه الصيغة تؤكد بما يقتضي العموم، فوجب القول بالعموم لقولهم امسح برأسك كله، والتأكيد تقوية لما كان ثابتا في الأصل. وثانيها: أنها صيغة يدخلها الاستثناء فيقال: امسح برأسك إلا نصفه، أو إلا ثلثه، والاستثناء عبارة عما لولاه لاندرج المستثنى تحت الحكم، وما من جزء إلا يصح استثناؤه من هذه الصيغة، فوجب اندراج جملة الأجزاء تحت وجوب المسح، وهو المطلوب. وثالثها: أن الله تعالى أفرده بذكره، ولو كان المراد أقل جزء من الرأس لاكتفى بذكر الوجه لأنه لا بد معه من ملامسة جزء من الرأس. وأما السنة: فما روي عنه عليه السلام أنه مسح بناصيته، وعمامته، ولو كان الاقتصار على مسح بعض الرأس جائزا لما جمع بينهما لحصول المقصود بالناصية. وأما القياس فنقول: عضو شرع المسح فيه بالماء، فوجب أن يعمه حكمه قياسا على الوجه في التيمم، أو نقول: لو لم يجب الكل لوجب البعض، ولو وجب البعض لوجب البعض الآخر قياسا عليه، وهذا قياس يتعذر معه الفارق لعدم تعين المقيس عليه. وأما قول الشافعية: إن الفعل في الآية متعد فيستغنى عن الباء، فتكون للتبغيض صونا لكلام الله تعالى عن اللغو. قلنا: الجواب عنه من وجوه: أحدها لا نسلم أنه مستغن عن الباء، وتقريره أن فعل المسح يتعدى إلى مفعولين أحدهما: بنفسه، والثاني: بالباء إجماعا كقولنا: مسحت يدي بالمنديل، فالمنديل المزيل عن اليد، وإذا قلنا: مسحت المنديل بيدي، فاليد المزيلة، والمنديل المزال عنه، والرطوبة في الوضوء إنما هي في اليد، فتزال عنها بالرأس فيكون معنى الآية، فامسحوا أيديكم برءوسكم، فالمفعول الأول هو المحذوف، وهو المزال عنه، والرأس المفعول الثاني المزال به، فالباء على بابها للتعدية. الثاني: سلمنا أنها ليست للتعدية، فلم لا يجوز أن تكون للمصاحبة كقوله: (تعالى تنبت بالدهن) بضم التاء يدل على أنه عدي بالهمزة، فتتعين الباء للمصاحبة لأنه لا يجتمع على الفعل معديان، وكقولنا: جاء زيد بمائة دينار، والباء في هذا القول للمصاحبة دون التعدية لأنها لو كانت للتعدية لحسن أن تقوم الهمزة مقامها فيقال: أجاء زيد مائة دينار، وليس كذلك. الثالث: سلمنا أنها ليست للمصاحبة، فلم لا يجوز أن تكون زائدة للتأكيد، فإن كل حرف يزاد في كلام العرب، فهو للتأكيد قائم مقام إعادة الجملة مرة أخرى، والتأكيد أرجح مما ذكر تموه من التبغيض، فإنه مجمع عليه، والتبغيض منكر عند أئمة العربية حتى إن ابن جني شنع عليه، وقال: لا يعرف العرب الباء للتبعيض فضلا عن كونه مجازا مرجوحا، وحمل كتاب الله تبارك وتعالى على المجمع عليه أولى من المختلف فيه، فضلا عن المنكر. وأما قولهم: تعميم الوجه في التيمم إنما ثبت بالسنة، وكان مقتضى الباء فيه التبعيض، فنقول على ما ذكرتموه تكون السنة معارضة للكتاب، وعلى ما ذكرناه لا تكون معارضة بل مبينة مؤكدة، وعدم التعارض أولى. وأما وجه القول بالثلثين، فلأنه عضو مختلف فيه، والثلث في حيز القلة، بدليل إباحته للمريض، والمرأة المتزوجة مع الحجر عليهما. ووجه الربع: مسحه عليه السلام بالناصية، والعمامة، والناصية نحو الربع. ووجه الاقتصار على أقل ما يسمى مسحا أن الباء للتبعيض، وليس البعض أولى من البعض فيقتصر على أقل ما يسمى مسحا، وقد عرفت ما على هذا الوجه. فروع أحد عشر: الأول: حكى في تعاليق المذهب أن رجلا جاء لسحنون، فقال: توضأت للصبح وصليت به الصبح، والظهر، والعصر، والمغرب، ثم أحدثت، وتوضأت، فصليت العشاء، ثم تذكرت أني نسيت مسح رأسي من أحد الوضوءين لا أدري أيهما هو، ف. قال سحنون: امسح برأسك، وأعد الصلوات الخمس، فذهب، فأعاد الصلوات الخمس، ونسي مسح رأسه، فجاء إليه، فقال: أعدت الصلوات، ونسيت مسح رأسي، فقال له: امسح برأسك، وأعد العشاء وحدها، ففرق سحنون بين الجوابين مع أن السائل نسي في الحالتين. ووجه الفقه في المسألة: أنه أمره أولا بإعادة الصلوات كلها لتطرق الشك للجميع، والذمة معمرة بالصلوات حتى يتحقق المبرئ، فلما أعادها بوضوء العشاء صارت الصلوات الأربع كل واحدة منها قد صليت بوضوءين الوضوء الأول والثاني، وأما العشاء، فصليت بوضوئها أولا، وأعيدت بوضوئها أيضا، فلم يوجد فيها إلا وضوء واحد، فجاز أن يكون هو الذي نسي منه مسح الرأس، فلم تتحقق براءة الذمة منها، فتجب إعادتها، وأحد الوضوءين في الصلوات الأول صحيح جزما بأنه ما نسي المسح إلا من أحدهما. وإذا وقعت بوضوءين: صحيح، وفاسد صحت بالوضوء الصحيح، فلا تعاد، ولا فرق في هذه المسألة بين أن تكون الصلوات الأول كل واحدة بوضوء، أو كلها بوضوء، وهذا فرع لا يكاد تختلف العلماء فيه. الثاني: من نسي مسح رأسه، وذكره في الصلاة، وفي لحيته بلل قال مالك رحمة الله عليه في الكتاب: لا يجزئه مسحه بذلك البلل، ويعيد الصلاة بعد مسح رأسه. قال صاحب الطراز: يحتمل قوله الوجوب، والندب، وقال عبد الملك: يجزئه إن لم يجد ماء قريبا، وكان في البلل فضل بين. قال المازري: المسألة تتخرج على القولين في الماء المستعمل. وحجة عبد الملك ما روي عنه عليه السلام أنه لم يستأنف لرأسه ماء. الثالث: في الجلاب: لا يستحب فيه التكرار، وهي إحدى خمس مسائل لا يستحب فيها التكرار هذه، والوجه، واليدان في التيمم، والجبائر، والخفان؛ لأن حكمة المسح التخفيف إذ لولا ذلك لشرعه الله عز وجل غسلا، فلو كرر لخرج بتكراره عن التخفيف، فتبطل حكمته. الرابع: في الجواهر: يجزئ الغسل عن المسح فيه عند ابن شعبان؛ لأن الغسل إنما سقط لطفا بالمكلف، فإذا عدل إليه أجزأه كالصوم في السفر. وقال غيره: لا يصح؛ لأن الله تعالى أوجب عليه المسح، وحقيقته مباينة للغسل، ولم يأت به، وكرهه آخرون لتعارض المآخذ. الخامس: ما انسدل من الشعر من محل الفرض. قال المازري: فيه قولان كالمنسدل من اللحية نظرا إلى مبادئه فيجب، أو محاذيه، فلا يجب. قال ابن يونس: روى ابن وهب أن عائشة، وجويرية زوجتي النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفية زوج ابن عمر كن إذا توضأن أدخلن أيديهن تحت الوقاية فيمسحن جميع رءوسهن، وقال مالك: تمسح المرأة على ما استرخى من دلاليها، وإن كان شعرها معقوصا مسحت على ضفرها. وكذلك الطويل الشعر من الرجال إذا ضفره، وقال في العتبية: يمر بيديه على قفاه، ثم يعيدهما من تحت شعره إلى مقدم رأسه. قال ابن حبيب: إذا كان في شعرها خيط، أو شعر لم يجز مسحها حتى تنزعه إذا لم يصل الماء إلى شعرها بشيء للعنه عليه السلام الواصلة، والمستوصلة. السادس: قال في الكتاب: إذا توضأ، وحلق رأسه ليس عليه إعادة مسحه، وكذلك قال فيمن قلم أظفاره. قال ابن القاسم: وبلغني عن عبد العزيز بن أبي سلمة أنه قال: هذا من لحن الفقه. قال صاحب الطراز: لا يعرف في هذه المسألة مخالف إلا ابن جرير الطبري؛ لأن الفرض قد سقط أولا، فزوال الشعر لا يوجبه كما إذا غسل وجهه، أو تيمم، ثم قطع أنفه، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يحلقون بمنى، ثم ينزلون لطواف الإفاضة، ولم ينقل عن أحد منهم إعادة مسح رأسه، ولأنه لا يعاد الغسل للجنابة، وهي أولى؛ لأن منابت الشعر لم تغسل قبل الحلق، وهي من البشرة المأمور بغسلها، وأما كلام عبد العزيز، وهذا من لحن الفقه، فكلام محتمل. قال ابن دريد: اللحن الفطنة، ومنه قوله عليه السلام: ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض أي أفطن لها. وأصل اللحن: أن تريد الشيء، فتوري عنه، واستشهد بقول الفرزدق: وحديث ألذه، وهو مما يشتهي الناعتون يوزن وزنا. منطق صائب، وتلحن أحيانا وأحلى الحديث ما كان لحنا. قال ابن يونس: ذكر أهل اللغة أن اللحن بإسكان الحاء الخطأ، وبفتحها الصواب، فمن رواها بالإسكان، فمعناه أن القول ينقض الوضوء خطأ، وبالتحريك معناه أن القول بعدم النقض صواب، وقال القاضي عبد الوهاب: معناه أنه عاب قول مالك، ووافقه القاضي عياض في التنبيهات، وقال: لا يلتفت إلى قول من يقول إنه أراد تخطئة غيرنا. وقال عبد الحق في النكت: يحتمل كلامه التصويب، والتخطئة، فلأن اللحن من أسماء الأضداد. والفرق بين الخفين، ومسح الرأس: أن الشعر أصل، والخف فرع، فإذا زال رجع إلى الأصل، وفرق صاحب الطراز بأن ماسح الرأس مقصوده الرأس لا الشعر، فإن كان الرأس من التراوس، فقد صادف الواجب، وإن كان الرأس العضو، فهو المقصود بالمسح، والشعر تبع بخلاف الخف، فإنه المقصود، وكذلك القول في الأظفار هي تبع أيضا. قال: وقد فرع أصحابنا على القول بأن المراد باللحن الخطأ إذا قطعت بضعة منه بعد الوضوء أنه يغسل موضع القطع، أو يمسح إن تعذر الغسل، وهو تخريج فاسد، فإنه لا يعرف لأحد، فإنا نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يجرحون، ويصلون بجراحهم من غير إعادة، وفي البخاري في غزوة ذات الرقاع أن رجلا رمي بسهم وهو يصلي، ونزفه الدم، فركع، وسجد، ومضى في صلاته. السابع: قال في الكتاب: الأذنان من الرأس، ويستأنف لهما الماء، فإن نسي حتى صلى، فلا إعادة عليه، ويمسحهما للمستقبل، وكذلك إن نسي داخلهما. قال صاحب الطراز: اختلف في معنى قوله هما في الرأس قيل: في وجوب المسح، وقيل: في المسح دون الوجوب، واعتذر بهذا عن عدم الإعادة، والقولان للأصحاب. وقال الشعبي، والحسن بن صالح: يغسل باطنهما مع الوجه، ويمسح ظاهرهما مع الرأس، وقال الزهري: يغسلان مع الوجه. حجة الأول: أن ابن عباس، والمقداد، والربيع رضي الله عنهم ذكروا وضوءه عليه السلام، وكلهم مسح أذنيه ظاهرهما، وباطنهما أخرجه أبو داود، والترمذي، وفيهما عنه عليه السلام قال: (الأذنان من الرأس) إلا أنه يرويه شهر بن حوشب، وقد تكلم فيه. حجة الثاني:. قال المازري: إن الأمة مجمعة على أن مسحهما لا يجزئه عن الرأس مع أن أكثر العلماء على أن بعض الرأس يجزئ مسحه. حجة الثالث: قوله عليه السلام في سجوده: (سجد وجهي للذي خلقه، وصوره، وشق سمعه، وبصره) فأضافهما للوجه، وهذا الحديث لا حجة فيه؛ لأن الوجه يراد به هنا الجملة لأنه اللائق بالنسبة إلى الخضوع إلى الله تعالى، وهذا المجاز جائز كما قال تبارك وتعالى: (ويبقى وجه ربك) أي ذاته وصفاته. وهو معارض بقوله عليه السلام: فإذا غسل وجهه خرجت الخطايا من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا مسح برأسه خرجت الخطايا من رأسه حتى تخرج من أذنيه) فأضافهما إلى الرأس كما أضاف العينين إلى الوجه. وأما تجديد الماء، فقد احتج به بعض الأصحاب على أن مسحهما سنة، وإلا لمسحا مع الرأس بمائه كالصدغ، وغيره من أجزاء الرأس، وهذا قول الشافعي إنهما سنة، ويجدد الماء لهما. وقال أبو حنيفة رحمة الله عليه: لا يجدد، محتجا بأن كل من وصف وضوء رسول الله لم ينقل التجديد بل الذي في الصحيحين لم يذكر الأذن أصلا لاعتقاد أنهما من الرأس. حجتنا أنهما مباينان للرأس حقيقة، وحكما أما الحقيقة فبالمشاهدة، فإنهماغضاريف منفردة عن الرأس بحاجز خال من الشعر، وأما حكمهما، فلا خلاف أن مسحهما بعد مسح الرأس، والمحرم لا يؤمر بحلق شعرهما، وجنايتهما منفردة بأرشها، وإذا تحقق التباين وجب تجديد الماء لهما. وفي الموطأ: كان ابن عمر رضي الله عنهما يجدد لهما الماء، وهو شديد الاتباع جدا، ولم ينكره أحد من الصحابة رضي الله عنهم. فروع مرتبة: الأول: قال صاحب الطراز: إذا قلنا مسحهما سنة، فلا يمسحهما بماء الرأس قال مالك: فإن فعل أعاد، وقال محمد بن مسلمة: إن شاء جدد، وإن شاء لم يجدد، ويمسح بماء الرأس، وإن قلنا إن مسحهما واجب، فتركهما سهوا وصلى، فلا يختلف في صحة صلاته، والذي صرف المتأخرين عن الإعادة إجماع المتقدمين على الصحة. واختلف في التعليل، فقيل: هو استحسان، وليس بقياس، وقال الأبهري: السبب اجتماع خلافين في كونهما من الرأس، ووجوب مسحهما. فإن تركهما عمدا اختلف القائلون بالوجوب، فتعليل الأبهري يقتضي صحة الصلاة، وقال بعض أصحابنا: يعيد الوضوء، وحمل قول مالك على السهو استحسان. الثاني: في كيفية مسحهما. قال صاحب الطراز: قال عيسى بن دينار: يقبض أصابع يده إلا السبابتين يبلهما، ويمسح بهما أذنيه من داخل، وخارج؛ لأن ابن عمر كان يفعل ذلك رواه مالك في الموطأ، والأمكن أن يبل إبهاميه، وسبابتيه فيمسح بإبهاميه ظهورهما، وبسبابتيه بطونهما قال مالك في المختصر: ويدخل أصبعيه: لأنه عليه السلام كان يدخل أصبعيه في صماخيه لأنه عليه السلام كان يدخل أصبعيه في جحري أذنيه. خرجه أبو داود، والترمذي. قال ابن حبيب: وليس عليه أن يتتبع غضونهما اعتبارا بغضون الوجه في التيمم، والخفين. الثالث: قال صاحب الطراز: إذا قلنا إن مسحهما سنة، وهو الصحيح فيفارق الغسل، والوضوء على ظاهر الكتاب، فإنه قال في تاركهما في الوضوء: لا إعادة عليه، وتارك داخلهما في الغسل لا إعادة عليه فيكون ظاهرهما، وباطنهما مستويين في الوضوء، وداخلهما في الجنابة مسنون فقط، وعلى القول الآخر يكون ظاهرهما في الوضوء واجبا، وداخلهما سنة فيستوي المسنون منهما في الطهارتين. الثامن: قال في الكتاب: لا يمسح على الحناء. قال صاحب الطراز: إن كان للضرورة جاز من حر، وشبهه، أو يكون في باطن الشعر لتغييره وقتل دوابه، فالأول لا يمنع كالقرطاس على الصدغ، وكما مسح عليه السلام على ناصيته، وعمامته، وإن كانت لغير ضرورة، وهي مسألة الكتاب منع المسح خلافا لابن حنبل، وجماعة معه، فإن الماسح عليه ليس ماسحا. فرعان مرتبان: الأول: قال صاحب الطراز: إن كانت الحناء ليس على ظاهر الشعر منها شيء لا يمنع؛ لأن مسح الباطن لا يجب، وقد أجاز الشرع التلبيد في الحج، وفي أبي داود أنه عليه السلام لبد رأسه لئلا يدخله الغبار، والشعث، والتلبيد يكون بالصمغ، وغيره. الثاني: قال: إذا خرج الحناء من بعض تعاريج الشعر يخرج على الخلاف في قدر الواجب من الرأس. التاسع: قال في الكتاب: لا تمسح المرأة على خمارها، ولا غيره. قال صاحب الطراز: يريد إذا أمكنها المسح على رأسها، وهو قول الشافعي، وأبي حنيفة. وقال ابن حنبل: يجوز المسح على الخمار، والعمامة كالخفين، واشترط اللبس على طهارة لما في مسلم أنه عليه السلام مسح على الخفين، والعمامة، وفي أبي داود مسح على عمامته، ومفرقه. ومستندنا قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) قال سيبويه: بالباء للتأكيد معناه رءوسكم أنفسها، وقوله عليه السلام بعد الوضوء: لا يقبل الله الصلاة إلا به، وكان قد مسح رأسه فيه، ولأنه لو مسح على غيره لكان ذلك الغير شرطا، وهو خلاف الإجماع. ولنا أيضا: القياس على الوجه، واليدين. العاشر: قال في الكتاب: تمسح المرأة على شعرها المعقوص، والضفائر من غير نقض. قال صاحب الطراز: فلو رفعت الضفائر من أجناب الرأس، وعقصت الشعر في وسط الرأس، فالظاهر عدم الإجزاء لأنه حائل كالعمامة. الحادي عشر: مسح الرقبة، والعنق لا يستحب خلافا ش لعدم ذكره في وضوئه عليه السلام. ايضاح قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) إن راعينا الاشتقاق من التراوس، وهو كل ما علا فيتناول اللفظ الشعر لعلوه، والبشرة عند عدمه لعلوها من غير توسع، ولا رخصة، وإن قلنا: إن الرأس العضو فيكون ثم مضاف محذوف تقديره امسحوا شعر رءوسكم، فعلى هذا يكون المسح على البشرة لم يتناوله النص فيكون المسح عليها عند عدم الشعر بالإجماع لا بالنص، وعلى كل تقدير يكون الشعر أصلا في الرأس، فرعا في اللحية، والأصل الوجه. الفرض السادس: غسل الرجلين مع الكعبين. وقيل: إليهما دونهما، وهما الناتئان في الساقين لقوله عليه السلام: (ويل للأعقاب من النار)، فلو كان معقد الشراك لما عوقب على ترك العقب، وفي قوله تعالى: (إلى الكعبين) إشارة إليهما؛ لأن اليد لها مرفق واحد، ولو كان المراد الناتئ في ظهر القدم لكان للرجل كعب واحد، فكان يقول: إلى الكعاب كما قال: إلى المرافق لتقابل الجمع بالجمع، فلما عدل عن ذلك إلى التثنية دل ذلك على أن مراده الكعبان اللذان في طرف الساق فيصير معنى الآية اغسلوا كل رجل إلى كعبيها. وروى ابن القاسم، وغيره عن مالك رحمة الله عليهما أنهما اللذان عند معقد الشراك فيكون غاية الغسل، والأول: مذهب الكتاب، والثاني: في غيره. والكعبان يدخلان في الغسل على المذهب لما تقدم في المرفقين. فرعان: الأول: تخليل أصابع الرجلين مستحب على المذهب، وقيل: واجب، وقيل: مكروه، والفرق بين أصابع اليدين، والرجلين شدة الالتصاق، وصغر الحجم الموجبان للتحاك، والتدلك. الثاني: أقطع الرجلين يغسل الكعبين بخلاف أقطع اليدين لتقاربهما في الرجلين بعد القطع. تمهيد: قوله تعالى: (وأرجلكم) قرئ بالرفع، والنصب، والخفض أما الرفع، فتقديره مبتدأ خبره محذوف تقديره اغسلوها، والنصب عطف على اليدين، والخفض اختلف الناس فيه، فحمله ابن جرير الطبري، وداود على التخيير بين الغسل، والمسح جمعا بين القراءتين، وحمله الشيعة على تعين المسح، وتأولوا قراءة النصب بأن الرجل معطوف على الرأس قبل دخول حرف الجر عليه كقول الشاعر: معاوي إننا بشر، فأسجح فلسنا بالجبال، ولا الحديدا. والفرق بينهما أن ليس تتعدى بنفسها لنصب خبرها بخلاف المسح لا يتعدى لمفعولين بنفسه، وقد بينا أن أحد مفعوليه المنصوب مضمر فيكون الرأس المفعول الثاني، فيتعين له حرف الجر. وقال المازري وابن العربي، وجماعة من أصحابنا: الخفض محمول على حالة لبس الخفين، والنصب على حالة عدمهما، ومنهم من قال: الأصل النصب، وإنما الخفض على الجوار كقول العرب: هذا حجر ضب خرب، وورد عليهم أمران: أحدهما: أن المثال لا لبس فيه بخلاف الآية، فإن المسح في الرجلين ممكن، وليس يمكن أن يوصف الضب بالخراب. وثانيهما: أن العطف في الآية يأبى ذلك لاقتضائه التشريك بخلاف المثال. تذييل: قال بعض العلماء: ينبغي في غسل اليدين، والرجلين أن يختم المتطهر أبدا بالمرافق، والكعبين مراعاة لظاهر الغاية الواردة في القرآن، وإن فعل غير ذلك أجزأ لكن الأدب أولى. الفرض السابع: الموالاة. وهي حقيقة في المجاورة في الأعيان، وهنا المجاورة في الأفعال، ومنه الأولياء، والولاء، والتوالي. وفي الجواهر: في حكمها خمسة أقوال: الوجوب مع الذكر، والوجوب مطلقا، وعدمه مطلقا، والفرق بين الممسوح، فلا يجب، وبين المغسول فيجب، والفرق بين الممسوح البدلي كالجبيرة، والخفين فيجب، والممسوح الأصلي، فلا يجب، وهذه الأقوال تدور على مدارك أحدها: آية الوضوء، والاستدلال بها للوجوب من ثلاثة أوجه: أحدها: قوله تعالى: (إذا قمتم)، فإنه شرط لغوي، والشروط اللغوية أسباب، والأصل ترتيب جملة المسبب على السبب من غير تأخير الثاني: قوله تعالى: (فاغسلوا) الفاء للتعقيب فيجب تعقيب المجموع للشرط، وهو المطلوب. الثالث: قوله تعالى: (فاغسلوا) صيغة أمر، والأمر للفور على الخلاف فيه بين الأصوليين فيتخرج الخلاف في الفرع على الخلاف في الأصل. المستند الثاني: أنه عليه السلام توضأ مرة في فور واحد، وقال: هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به، فنفى القبول عند انتفائه، فدل ذلك على وجوبه، ثم هاهنا نظر، وهو أنه عليه السلام هل أشار إليه من حيث هو مرة مرة، وهو الصحيح، أو أشار إليه بما وقع فيه من القيود، فتجب الموالاة، ويرد هذا الاحتمال أنه لو كانت الإشارة لقيوده لاندرج في ذلك الماء المخصوص، والفاعل، والمكان، والزمان، وغيره، وهو خلاف الإجماع، ولك أن تقول الإشارة إلى المجموع، فإن خرج شيء بالإجماع بقي الحديث متناولا لصورة النزاع، وأما إسقاط الوجوب مع النسيان، فلضعف مدرك الوجوب المتأكد بالنسيان، وأما الفرق بين الممسوح، وغيره، فلخفة الممسوح في نظر الشرع، وأما الممسوح البدل، فنظرا لأصله. فروع ستة: الأول: التفريق اليسير لا يضر قال القاضي: لا يختلف المذهب في ذلك لقوة الخلاف في المسألة، ولأنه عليه السلام في حديث المغيرة بن شعبة شرع في وضوء وعليه جبة شامية ضيقة الكم، فترك عليه السلام وضوءه، وأخرج يده من كمه من تحت ذيله حتى غسلها، وهذا تفريق يسير، ولما في مسلم: قال ابن عمر: رجعنا معه عليه السلام من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء في الطريق، فعمد قوم عند العصر، فتوضئوا وهم عجال، فانتهى إليهم، وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال عليه السلام: (ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء) فإن هذا التفريق يسير لقوله تلوح أعقابهم، وما يرى ذلك إلا إذا كان البلل موجودا. الثاني: قال في الكتاب: إذا عجز الماء في الوضوء، فقام لأخذه إن كان قريبا بنى، وإن تباعد، وجف وضوؤه ابتدأ؛ لأن القريب في حكم المتصل، ولأنه عليه السلام في الحديث أمر تاركي الأعقاب بالإسباغ لا بالإعادة، وأما إذا كان عالما بأنه لا يكفيه، فإنه يخرج على الخلاف فيمن فرق بغير سبب. والتقييد بالجفوف لأكثر الفقهاء مالك، والشافعي، وابن حنبل، وجماعة، فكان قيام البلل عندهم بقاء أثر الوضوء فيتصل الأخير بأثر الغسل السابق، وقيل: المعتبر الطول في العادة حكاه القابسي لاختلاف الجفاف باختلاف الأبدان، والأزمان. الثالث: في الطراز: إذا قلنا إنها واجبة مع الذكر هل يشترط مع الذكر التمكن أم لا؟ وينبني عليه إذا نسي عضوا، وذكره في موضع لا ماء فيه، ولم يجده حتى طال هل يبتدئ، أو يبني؟ وكذلك إذا نسي النجاسة، ثم ذكرها في الصلاة هل تبطل عند الذكر، أو ينزعها، ويتمادى في ذلك خلاف حكاه صاحب الطراز قال: إن أخر الشيء اليسير بنى. وإن طال، ولم يتوان في الطلب قال أبو العباس الإبياني: هو كالحائض تبادر للطهر لا تراعي وقت ابتدائها، وقال صاحب النكت: حكمه حكم من عجز ماؤه في ابتداء الطهارة حكاه عن جماعة من الشيوخ. الرابع: قال: إذا نسي لمعة لا يعفى عنها، وحكى الباجي عن محمد بن دينار فيمن لصق بذراعيه قدر الخيط من العجين، أو غيره لا يصل الماء إلى ما تحته يصلي بذلك، ولا شيء عليه؛ لأنه يعد في العرف غاسلا، ولما رواه الدارقطني أنه عليه السلام صلى الصبح، وقد اغتسل لجنابة، فكان بكفيه مثل الدرهم لم يصبه الماء، فقيل يا رسول الله هذا موضع لم يصبه الماء، فسلت من شعره الماء، ومسح، ولم يعد الصلاة إلا أن الدارقطني ضعفه، وقياسا على ذلك القدر من الرأس، ومن بين الأصابع، والخاتم. وقال ابن القاسم: يعيد الصلاة، فإن كان مما لا يمكن الاحتراز منه لم ينقل حكم الفرض إليه قال مالك في الموازية فيمن توضأ، وعلى يديه مداد، فرآه بعد الصلاة لم يغيره الماء: إذا أمر الماء عليه أجزأه ذلك إذا كان كاتبا، فإنه رأى الكاتب معذورا بخلاف غيره. الخامس: الموالاة فرض في الوضوء، والغسل خلافا لأحمد بن حنبل، وفرق بأن الموالاة إنما تكون بين شيئين، والوضوء أعضاء متعددة، والغسل واحد، وهو البدن. السادس: إذا نسي شيئا من فروض طهارته إن كان في القرب فعله، وما بعده، وإن طال فعله وحده، وقال ابن حبيب: إن كان مغسولا، وطال ابتدأ، وإن كان ممسوحا مسحه فقط، ورواه مطرف عن مالك. أما إن كان المنسي مسنوناً، وذكره بالقرب قال مالك في المختصر: يعيد ما بعدها بخلاف نسيان المفروض، وقال في الواضحة خلاف ذلك.
|